دراسات إسلامية

 

 

الشيخ بديع الزمان النورسي وجهوده الإصلاحية

 

بقلم:  الدكتورة مه جبين أختر (*)

 

 

 

 

     الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد!

     فإن القرن التاسع عشر الميلادي وما قبله من الفترات كان مليئا بالأحداث والنكبات وكانت الظروف صعبة بالنسبة للمسلمين في العالم، فإن التقدم السياسي والصناعي والحربي للغرب وتخلف المسلمين في جميع مرافق الحياة كل ذلك جعل الغرب يتطلعون إلى السيادة على العالم وإضعاف قوة المسلمين، فدخلوا بلادهم مستعمرين أو أثاروا الأحداث وأحدثوا الثورات.

     وكانت تركيا مركز مؤامرات الأعداء حيث إن الخلافة العثمانية كانت حاكمة معظمَ البلادالإسلامية، وكانت الخلافة في بداية القرن التاسع عشر في حالة ضعف شديد، والأعداء حاصروها من كل جانب من الداخل والخارج. فكان المسلمون في حاجة شديدة إلى من يحميهم من العدوان ويصونهم من إساءات الأعداء.

     في مثل هذه الظروف ولد بديع الزمان النورسي في قرية «نورس» الواقعة شرقي الأناضول في تركيا عام 1873م من أبوين صالحين كرديين كانا مضرب المثل في التقوى والورع والصلاح، ونشأ في بيئة كردية يخيم عليها الجهل والفقر كأكثر بلاد المسلمين في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وكان اسم والده ميرزا ابن علي بن خِضر بن ميرزا خالد من عشيرة أسباريت، وأما والدته فاسمها نورية بنت ملا طاهر من قرية بلكان وهي من عشيرة خاكيف، والعشيرتان من عشائر قبائل الهكارية في تركيا.

     ولما بلغ بديع الزمان التاسعة من عمره بدأ يتجه إلى طلب العلم فالتحق بمجموعة من الكتاتيب والمرافق التعليمية المبثوثة في تلك النواحي من حول قريته نورس، وكان يستوعب كل ما يقدم له من علم، وسرعان ما أضحى لايجد مايستجيب لنهمه التحصيلي في المراكز التي يقصدها. ومن هنا كانت إقامته في تلك المراكز ظرفية إذ كان يتطلع إلى الاستزادةالمعرفية الحقة، فظل يرتحل من مركز إلى مركز ومن عالم إلى عالم حتى حفظ ما يقرب من تسعين كتابا من أمهات الكتب.

     ولم يكد يتم له من العمر ثمانية عشر عاما حتى أصبح يعد من فحول العلماء، فقد أتقن في هذه الفترة كثيرا من العلوم الإسلامية من علوم اللغة والعلوم العقلية وعلم الفقه وأصوله وعلوم القرآن، وانكشفت مواهبه عن ذكاء حاد وحافظة عجيبة مذهلة حتى أصبح اسمه حديث المجالس بين أهل العلم وطلابه، وسرعان ما أصبح يلقب بينهم بـ«سعيدي مشهور».

     كان بديع الزمان زاهدا متقشفا شديد التواضع، وكان يتخذ من مبدأ «دع ما يريبك إلى ما يريبك» دستورا لحياته فكان يسير به هذا الدستور نحو الورع والحيطة في جميع شؤونه.

     كان سعيد النورسي رجلا عظيما فذا، وكان نبوغه مثار حديث الناس، كماكان سببا لأن يتفق العلماء على منحه لقب «بديع الزمان».

     ولقد زجت الأوضاع السياسية المضطربة هذا الرجل العظيم في ريعان شبابه فما إن بلغ العشرين من عمره حتى كانت أوضاع البلاد وسياسة العباد من أكبر همه.

     اطلع ذات يوم على خبر مثير نشرته إحدى الصحف وهو أن وزير المستعمرات البريطانية قال في أحد الاجتماعات الخاصة:

     «مادام القرآن بين أيدي المسلمين معززا فإنه سيعيق سبيلنا، لابد من إخفاء هذا الكتاب عنهم أولاً».

     فثار بديع الزمان، وأعلن لمن حوله أنه سوف يكرس حياته كلها لخدمة القرآن والكشف عن المزيد من مظاهر إعجازه، ثم إنه قصد استانبول سعيا وراء تأسيس مدرسة تضاهي الجامع الأزهر باسم «الزهراء».

     وقد اتفق أن قدم الشيخ بخيت شيخ الأزهر إلى استانبول في ذلك الوقت فالتقى ببديع الزمان في بعض المجالس ودار بينهما حديث طويل، ثم وجه الشيخ بخيت إلى بديع الزمان هذا السؤال:

     ما قولكم في الدولة العثمانية والأمة الأوربية؟

     فأجابه بديع الزمان باللغة العربية:

     «إن أوربا اليوم حاملة بالإسلام وستلده يوما، والدولة العثمانية حاملة بالنهج الأوربي وستلده يوما».

     فقال الشيخ بخيت: إن مثل هذا الشاب لايناظر.

     وفي سنة 1911م سافر إلى دمشق والتقى برجالاتها وعلمائها، وبسبب ما لمسوا فيه من علم ونجابة استمعوا إليه في الجامع الأموي الشهير بدمشق وهو يخطب في الآلاف من المصلين خطبة حفظها لنا الزمن واشتهرت في تراثه «بالخطبة الشامية»، وقد كانت تلك الخطبة برنامجا سياسيا واجتماعيا متكاملا للأمة الإسلامية.

     ولما قامت الحرب العالمية الأولى، تطوع بديع الزمان فيها برتبة ضابط، وكان يعود في أمسيات الحرب إلى المعسكر حيث يتحلق حوله طلابه فيدارسهم علوم القرآن، ومن أعجب الأمور أنه ألف في تلك الفترة كتابه الرائع: (إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز) وهو أول مؤلف له بالعربية.

     وقع بديع الزمان أسيرا في تلك الأثناء بيد الروس ونقل إلى سيريا، وبقى هناك فترة طويلة يعاني البرد الشديد، ولكنه استطاع أن يهرب أخيرا، فوصل إلى استانبول بعد جهد عن طريق ألمانيا ثم فينا ثم بلغاريا.

     وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى استولى الانكليز على استانبول عام 1918م، و وجهوا ستة أسئلة إلى المشيخة الإسلامية عن طريق كنيسة (إنكاكان) أريد منها البدء بسلسلة مؤامرات على الإسلام، فوجهت المشيخة الإسلامية هذه الأسئلة إلى بديع الزمان ليجيب عليها بستمائة كلمة حسب طلب الانكليز، فكان جواب بديع الزمان:

     «إن هذه الأسئلة لايجاب عليها بستمائة كلمة، ولا بست كلمات، ولا بكلمة واحدة بل ببصقة واحدة على أفواه السائلين».

     فحكم عليه بالإعدام... ثم عدل عن ذلك خوفا من ثورة الأناضول.

موقف بديع الزمان من مصطفى كمال:

     حينما تم عصيان الأناضول، وكان مصطفى كمال على رأس الحركة، استدعى بديع الزمان سنة 1920م إلى أنقرة للاحتفال به وتكريمه، ولكنه فوجئ حينما وصل إليها بخيبة أمل كبرى إذ شعر بالاتجاه نحو معاداة الشريعة الإسلامية، وحينئذ قاطع احتفال تكريمه. ثم أرسل بيانا مطولا إلى المجلس النيابي الذي كان مصطفى كمال رئيسا له ضمنه نصائح لهم في عشر فقرات. وجعل عنوانه هذه الجملة:

     «اعلموا أيها المبعوثون أنكم مبعوثون ليوم عظيم».

     وكان من تأثير هذا البيان الذي تولى إلقاءه (كاظم قره بكر) أن استقام على التدين وإقامة الصلاة ستون نائبا منهم. غير أن هذا أثار حفيظة مصطفى كمال، فاستدعى بديع الزمان ودخل معه في مناقشة حادة في ديوان المجلس النيابي، وكان مما قاله مصطفى كمال: لاريب أننا بحاجة إلى أستاذ قدير مثلك، لقد دعوناك إلى هنا للاستفادة من آرائك المهمة، ولكن أول عمل قمت به لنا هو الحديث عن الصلاة، لقد كان أول جهودكم هنا هويث الفرقة في أهل هذا المجلس.

     فأجابه بديع الزمان مشيرا إليه بإصبعه في حدة:

     «باشا... باشا إن أعظم حقيقة تتجلى بعد الإسلام إنما هي الصلاة، إن الذي لايصلي خائن، وحكم الخائن مردود».

     وهنا اضطر مصطفى كمال أن يعتذر وينهى الحديث. ومع ذلك فقد كان بديع الزمان يأمل أن يخرج من ظلام الحكومة الكمالية نورا، وأن يقلب سعيها إلى خدمة الإسلام، ولكن العقبات أخذت تظهر متوالية.

     ونظرًا لمكانة بديع الزمان بين الناس فقد أحب مصطفى كمال أن يستجلب قلبه فجعله رئيسا للوعاظ في شرق الأناضول كله، وعضوا في رئاسة جامعة دارالحكمة ومنحه بيتا ضخما يسكن فيه وجعله من المقربين إليه.

     غير أنه لم يوافق على قبول شيء منه، ولم يلبث أن فارق أنقره إلى وان، بعد أن تزلف إليه النواب طويلا أن لايفارقهم، وهناك انزوى عن الحكام والناس في مكان منعزل عن الجميع، وذلك عام 1921م. وكان هذا التاريخ هو الفاصل بين مرحلتين متمايزتين من حياة بديع الزمان. كان يطلق بعد ذلك على فترة ما قبل هذا التاريخ من حياته اسم سعيد القديم، ويطلق على نفسه في ما بعد ذلك اسم: سعيد الجديد.

سعيد الجديد ورسائل النور:

     بدأ بديع الزمان حياته الجديدة بقوله: (أعوذ بالله من الشيطان والسياسة) ثم جعل هذا الشعار دستورا لبقايا حياته اللاحقة، فقد غادر انقره إلى مكان ما في بلدة وان، منزويا عن الحكام والنواب، مبتعدا عن جميع مشاكل السياسة وأصحابها، يقول عن نفسه في هذه الفترة:

     «صرفت كل همى ووقتى إلى تدبر معاني القرآن الكريم، وبدأت أعيش حياة سعيد الجديد أخذتني الأقدار نفيا من مدينة إلى أخرى، وفي هذه الأثناء تولدت من صميم قلبي معاني جليلة نابعة من فيوضات القرآن الكريم أمليتها على من حولى من الأشخاص تلك الرسائل التي أطلقت عليها رسائل النور».

     فإنه راح يبث صيحات التوجيه والإرشاد بين صفوف الشباب، وبصورة خاصة بين المثقفين منهم من هذه الرسائل التي عرفت برسائل النور، وعرف أنصارها بجماعة النور.

     ورسائل النور هذه سلسلة تتألف من 13/رسالة، تتناول مختلف المشكلات الروحية والنفسية والعقلية التي تطوف بأذهان الجيل الحاضر، وهي تنطلق من محور القرآن وتفسيره.

     ولم يكن بديع الزمان يكتب هذه الرسائل إلا نادرًا، فكان يملي أفكاره في حالات وجدانية متأثرة، على حين يسجل تلاميذه من حوله ما يقول.

     وكان مصطفى كمال إذ ذاك قد أسفر عن وجهه، فألغى كل ما كان له طابع إسلامي، وفي مقدمته الكتابة بالأحرف العربية، فلم يكن من السهل أن تنشر هذه الرسائل، فاتخذ أفراد جماعة النور لنشر هذه الرسائل طريقة عجيبة، وهي أن يأخذ كل فرد منهم على نفسه كتابة ما يمكنه من النسخ عن كل رسالة تظهر، فإذا وزع على القراء كان على كل من هؤلاء أيضا أن يقوم بنفس الوظيفة.

     لقد ظل أفراد جماعة النور قرابة عشرين عاما ينشرون رسائل النور بهذه الوسيلة، فقد كانت أيدي الشبان والفتيات تقوم بما تعجز عنه آلات الطباعة، وكثيرا ما تعرضت فتيات للسجن والتنكيل عندما يظهر للسلطات أنهن يسهرن الليالي الطويلة وهن ينسخن هذه الرسائل ثم يوز عنها في صناديق البريد أو في صفوف المدارس،.

أعماله الإصلاحية:

     كان بديع الزمان النورسي يحمل الأفكار الإصلاحية فصار من أكبر الدعاة إليها وكانت دعوته تتركز على موضوعات الاتحاد الإسلامي، والحوار بين المذاهب والديانات، والتسامح الديني، والفلسفة المادية الغربية وحضارتها، وكان منهجه يتمحور في تنوير الأذهان وإنقاذ الإيمان وتطهيره من الفكر الإلحادي والمادي وفي الميل إلى المجال التعليمي والتربوي وتزكية النفس.

     فدعا إلى الاتحاد والانسجام في صفوف المسلمين على أساس القرآن والسنة وحاول جمع شملهم تحت رأية الإسلام رغما من الاختلافات الداخلية والفرعية التي كانت منتشرة حينذاك في صفوف المسلمين، ولما دعاه العلماء العرب إلى دمشق لإلقاء خطبة سنة 1911م حاول فيها أن يجمع المسلمين على أساس الإسلام، فدعاهم إلى الاعتصام بحبل الله والتسليم لتعاليم الإسلام وأحكامه والمؤاخاة بين العرب والترك فقال فيها:

     «فيا إخواني العرب الذين يستمعون إلى هذا الدرس في هذا الجامع الأموي إنني ما صعدت هذا المنبر لأرشدكم فهذا أمر فوق طوقى (طاقتي) إذ ربما فيكم ما يقارب المائة من العلماء الأفاضل.. فشأننا معكم شأن الصبيان مع الكبار، فنحن تلاميذ بالنسبة إليكم وأنتم أساتذة لنا ولسائر أمة الإسلام، إنما حازت جميع قبائل الإسلام وفي مقدمتها طوائف الترك والعرب نوعا من السعادة الدنيوية بتسليمهم الأمر إلى الله والرضا بقضائه وقدره ورؤية الحكمة وتلقى دروس العبرة من الحوادث بدل الرهبة والهلع... إن اليأس داء عضال للأمم والشعوب.. فلقد تعلم العالم الإسلامي من ثبات العرب وصمودهم الدروس والعبر، أملنا بالله عظيم أن يتخلى العرب عن اليأس ويمدوا يد العون والوفاق الصادق إلى الترك الذين هم جيش الإسلام الباسل فيرفعوا معا رأية القرآن عالية خفاقة في أرجاء العالم إن شاء الله».

     وأما دعوته إلى الحوار العقائدي بين المذاهب والأديان والملل والنحل فنجد أنه فعلا دعا إليه واستدل على ذلك بقوله تعالى: «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ» (آل عمران:64) وفسر هذه الآية قائلا:

     «إن هذا العصر قد اغتر بنفسه وأصم بأذنيه عن سماع القرآن أكثر من عصر مضى وأهل الكتاب منهم خاصة أحوج ما يكونون إلى إرشاد القرآن الذي يخاطبهم بـ«يا أهل الكتاب».. يا أهل الكتاب» حتى كأن ذلك الخطاب موجه إلى هذا العصر بالذات، إذ أن لفظ «أهل الكتاب» يتضمن أهل الثقافة الحديثة أيضًا. فالقرآن يطلق نداءه يدوي في أجواء الآفاق ويملأ الأرض والسبع الطباق بكل شدة وقوة وبكل نضارة وشباب فيقول «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ».

     فاعتقد النورسي بتعريف تعاليم القرآن الأساسية السامية بيان هداياته الواضحة الشاملة والكاملة، وقد دعا العلماء وأهل المدارس الحديثة في استانبول فعلا إلى مناظرة علماء الكنيسة ومجادلتهم على أسس القرآن وهي «أدْعُ إلى سَبِيْلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْـمَوْعِظَةِ الَـحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالّتِيْ هِيَ أَحْسَنُ» (النحل:125).

     وكان لرسائل النور دور عظيم في نشر الدعوة الإصلاحية للنورسي، حتى لما كان رسائله وجماعته التي سرعان ما تكاثرت وعمت مختلف المناطق من العقبات التي اعترضت طريق مصطفى كمال إلى المجتمع اللاديني، فأصدر أمره بسوق بديع الزمان إلى «بارلا» أحد منا في اسبارتا النائية، فقذف به إلى هناك وحيدًا محاطا برقابة شديدة تجحزه عن الاتصال بأي إنسان، ولكنه ما لبث أن أثر على بعض حراسه فانقلبوا إلى أعوان لمبادئه وأفكاره الإسلامية.

     ولم تكد تنتهي مدة سجنه حتى ألقى به إلى ولاية «كاستامونو» وهي بلدة نائية تقع على شاطئ البحر الأسود حيث فرضت عليه الإقامة في منزل تجاه مخضر الشرطة، ولكنه حتى في هذه الحالة ظل يكتب البحوث والمواضيع الإسلامية وكان قد امتد إشراق هذه الرسائل إلى صفوف الجامعات ومعسكرات الجيش ودواوين الحكومة، فكانت رسائل النور تنبث في هذه الأمكنة كلها بشتى الوسائل المختلفة.

     وحينما أقيمت لجنة من جهة مصطفى كمال بصدد دراسة رسائل النور وتحقيق ما فيها من الأثر ألقى بديع الزمان بيانا رائعا في المحكمة له أثر كبير في أفئدة الناس ألهبها إيمانا وحماسا واستهانة بكل نكبة تاتي في طريق الإسلام ودعوته، قال في هذا البيان:

     «نعم، نحن عبارةعن جمعية، وإنها لجمعية تحوى في كل عصر على أربعمائة مليون من الأعضاء المنتسبين إليها... وهم في كل يوم يعبرون خمس مرات عن أتم علاقتهم بالدستور العظيم لهذه الجمعية. وهم يتسابقون دائما إلى تحقيق أهم شعائرها، ألا وهو: (إنما المؤمنون إخوة) فنحن من أفراد هذه الجمعية المقدسة العظيمة، وظيفتنا تعريف هؤلاء الإخوة المؤمنين بحقائق القرآن تعريفا علميًّا راسخا.

     بأي وجه تستطيعون إيقاف حركة (رسالة النور) وإنما هي عبارة عن خدمة حقائق القرآن، والقرآن حقيقة مرتبطة بعرش الله العظيم، ومن ذا الذي يستطيع أن يتنطح للوقوف في وجه حقيقة ترتبط بعرش الله؟

     إنني لا أتوجه في بياني هذا إلى أعضاء هذه المحكمة فقط؛ بل وإلى تلك الجماعة المتأمرة في أسبارطه أيضا.. إنني لأعجب كيف يتهم أناس يتبادلون فيما بينهم تحية القرآن وبيانه ومعجزاته باتباعهم للسياسة والجمعيات السرية.. على حين يحق لمارق مثل (الدوردوزي) أن يفتري على القرآن وحقائقه في وقاحة وإصرار، ثم يعتبر ذلك أمر مقدسا لأنه حرية الرأي والفكر. هذه حرية للرأي والفكر، أما نور القرآن الذي يأبى إلا أن يشع في أفئدة ملايين المسلمين المرتبطين بدستور فهي خطورة تنهال عليها جميع ألفاظ الشر والخبث والسياسة؟

     إنكم تتهمونني بمعاداة الجمهورية، ولكني أقول لكم إنني منذ كنت طالب علم يؤتى لي بطعامي من الخبز والحساء، كنت آكل نصيبي منه، ثم أنثر ما بقي بين جماعات من النحل كانت بالقرب منى تقديرًا لجماعتها وتقديسا لنظامها وأخوتها، إنكم تستطيعون أن تعلموا من هذا مدى تقديري لحقيقة الجمهورية الصالحة. على أن أكبر دليل على تقديسي للجمهورية هو احترامي لخلفاء الإسلام، فقد كانوا إلى جانب كونهم خلفاء رؤساء جمهورية أيضا، ولقد كانت حياتهم حياة جمهورية لا في الادعاء اللفظي فقط، بل في الحقيقة والواقع.

     أما عن الجمهورية العلمانية، فنحن نعلم أنها تلك التي لا تتعرض للدين في خير أو شر. ولكن أنتم أولا تفسحون الطريق أمام كل جريمة وفاحشة خلقية وكذب على الله والكون باسم الحرية والوجدانية والفكرية، حتى إذا تنبهتم لآية من القرآن تفسر وتجلى حقائقها رفعتم أصواتكم بالنكير وقلتم: جمعية سرية.. وسياسية.. وخطورة!! إن المسألة إذن من الخطورة والاحترام بحيث تحاولون أن تستردها برداء العلمانية التي تعتبر غاية العدالة بالنسبة لما تحتها. فإن كان الأمر كذلك، فاعلموا أنه لو كانت لي ألف روح فأنا على استعداد أن أفدى كل ذلك في سبيل أهم حقائق الكون، ألا وهو دين الله تعالى.

     إنكم تدورون ثم تقولون: إن أعمالي المدينية ما هي إلا استغلال ووسيلة للإخلال بالأمن، ولكني أقول لكم بالمقابل: إن دعواكم هذه ليست إلا استغلالا ووسيلة لإعدام الدين باسم المحافظة على الأمن... إنكم تعلمون أن رسالة النور تضئ منذ عشرين عاما، هل سجلتم منذ ذلك اليوم إلى الآن حادثة واحدة أخلت بالأمن؟ إذن فإن تلك المادة ذات الرقم 163 ماهي إلا عبارة عن كرة تقذفون بها إلى حيث أردتم، وما إرادتكم إلا معاداة الدين. إذن فاسمعوا يامن بعتم دينكم بدنياكم وتنكستم في الكفر المطلق، إنني أقول بمنتهى ما أعطاني الله من قوة: افعلوا كل ما يمكنكم فعله، فغاية ما نتمناه أن نجعل رؤوسنا فداء حقيقة من حقائق الإسلام».

     بهذ البيان الحاسم الرائع لبديع الزمان النورسي عما يتعلق برسائله وجمعيته يتضح مدى جهوده في بث الأفكار الإصلاحية في الناس حتى في الأعداء.

وفاته:

     توفى سعيد النورسي في الخامس والعشرين من رمضان المبارك سنة 1379هـ الموافق عام 1960م فدفن في مدينة أورفة. ولكن السلطات العسكرية الحاكمة لتركيا لم تدعه يرتاح حتى في قبره إذ قاموا بعد أربعة أشهر من وفاته بهدم القبر ونقل وفاته بالطائرة إلى جهة مجهولة وبعد أن أعلنوا منع التجول في مدينة أورفة، فأصبح قبره مجهولا حتى الآن لايعرفه الناس.

مؤلفاته:

     1 رسائل النور.

     2 المثنوي العربي النوري.

     3 إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز.

     4 الكلمات.

     5 اللمعات.

     6 الشعاعات.

     7 المكتوبات.

     8 المحاكمات.

     9 سيرة ذاتية.

     10 قطوف من أزاهير النور (من كليات رسائل النور)

     11 الآية الكبرى ومؤلفات عديدة أخرى.

نقد مصطفى محمد علي حركة النور:

     إن مؤلف كتاب «الحركة الإسلامية الحديثة في تركيا» الشيخ مصطفى محمد بعد أن استعرض لحياة بديع الزمان وألقى الضوء على رسائل النور قوم ذلك ببعض النقد وهو ما يلي:

     1 يقول: لم تكن جمعية الاتحاد المحمدي أكثر من رد فعل ما لبث أن انتهى، وكان بإمكان سعيد النورسي بما يتمتع به من علم نمزير وحيوية كبيرة ومكانة بين الناس عالية أن يعلنها دعوة إسلامية علنية تنادى بالخلافة الإسلامية وإصلاح المجتمع الإسلامي القائم بالفعل.

     2 عندما أعلن مصطفى كمال فصل الأناضول عن الحكومة المركزية في استانبول حضر بديع الزمان إلى أنقرة بناء على دعوة من مصطفى كمال لتكريمه والاحتفاء به.

     وإنه لأمر غريب حقا أن يستجيب بديع الزمان لهذه الدعوة المريبة من إنسان معروف بانحرافه السلوكي والخلقي، ومنزعيم فصل البلاد وأعلن العصيان وتمرد على حكومته المركزية.

     ولنفرض أن مصطفى كمال خدع النورسي.. وأنه عندما اطلع على حقيقة العصيان وحقيقة مصطفى كمال ابتعد وأنكر هذا الأمر..

     ولكننا نجد مصطفى كمال يستدعى النورسي ثانية ويقول له إننا بحاجة إلى أستاذ قدير مثلك، وإننا دعوناك للاستفادة من آرائك...

     ولقد فسر طلبة النور هذا الموقف بأن أستاذهم كان يأمل أن يخرج من ظلام الحكومة الكمالية نورا، وأن يقلب سعيها إلى خدمة الإسلام.

     وما زال المستائلون يستغربون.. لماذا لم يكن لديه مثل هذا الأمل في خليفة المسلمين الموجود في استنابول؟

     3 إن سعيد النورسي رحمه الله قد ألزم نفسه بالبعد عن السياسة في المرحلة الثانية من حياته ورفع شعار (أعوذ بالله من الشيطان والسياسة) نتيجة لفشله في إدراك حقيقة المواقف السياسية في ذلك الوقت.

     وكل إنسان يستطيع أن يخط لنفسه الا تجاه الذي يريد، إلا القائد فلا يستطيع ذلك.. وهو لابد أن يلزم نفسه طوعا أو كرها بالمبادئ التي يؤمن بها جملة وتفصيلا، فالسياسة في الإسلام جزء منه.

     وأستطيع أن أقول إن هذا الشعار الجديد الذي رفعه سعيد النورسي قد أثر تأثيرا شديدا على أنصاره وأتباعه من بعده، فصار أكثرهم ينفر من كلمة سياسة.. وصار بالتالي وعيهم السياسي ضعيفا جدا مما أوقعهم في صبائل السياستين من حيث لا يشعرون.

     4 لم يتسطع سعيد النورسي، نتجية للظروف العصيبة والصعبة التي عاشها، أن يؤسس حركة إسلامية بالمعنى المعروف.

     وبالرغم من الحياة الفاصلة التي عاشها هذا المجاهد العظيم، ومن الدراسات القيمة التي توصل لها بملازمته للقرآن الكريم، ومن الرسائل المهمة التي كانت تصل إلى أنصاره في أنحاء تركيا... إلا أنه (رحمه الله) لم يضع لأنصاره خطة حركية مرحلية توصلهم في كل مرحلة إلى نقطة تالية تقربهم من الحكم الإسلامي الذي هو هدف الحركات الإسلامية أساسا.

     هذا وهناك أمور أخرى أيضا نقد عليها الشيخ مصطفى محمد هذه الحركة الإصلاحية ويطول الكلام هنا بذكرها، ومع كل ذلك فحياة الشيخ بديع الزمان النورسي كانت حياة جهاد فكري ومقاومة قوات الأعداء وبث روح الإيمان في الجيل الجديد.

     وأما رسائله فهي تراث عظيم للفكر الديني الصالح، فكثير من جوانب حياته القيمة ومحتويات رسائله الغالية خير نموذج لأعمال الإصلاح في عصرنا هذا خاصة والأمة الإسلامية وقعت في الفرقة والتشتت والضعف والهوان أكثر.

*  *  *

المراجع:

الحركة الإسلامية الحديثة في تركيا. مصطفى محمد ط 1984 ألمانيا الغربية.

صيقل الإسلام «النورسي» ترجمه احسان قاسم الصالحي ط القاهرة 2002م.

مجلة البعث الإسلامي عدد ربيع الأول 1434هـ.

موقع الانترنيت.



(*)  الأستاذة المشاركة بالقسم العربي بالجامعة العثمانية، حيدر آباد

 

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، رمضان – شوال 1434 هـ = يوليو - سبتمبر 2013م ، العدد : 9-10 ، السنة : 37